تأتينا الأخبار باستمرار عن نهايات مأساوية لمدمنين انتهت حياتهم نهايات مظلمة لا تتحملها قلوبنا، وكلما فكرنا في طريقة تعامل المدمن مع واقعه، تملؤنا الحيرة، كيف لم يرى الصواب؟ كيف لم يميز بين الصح و الخطأ؟ هل اختياره كان صحيحاً ثم أخطأ التنفيذ ؟ هل لم يرى إشراق مستقبله أمامه؟ وهل عرف في المستشفى ما فعله بنفسه؟ و كيف تحمل مسار حياته هكذا؟ هل رأى الأمل أم أنه لم يكن يرى شيئاً سوى متعته الوقتية فقط ؟ سوف نرى كيف كانت معاناته ثم نحكم.
الإدمان وبدايات إشراق سعادة المخدرات
نعلم جميعاً أن البدايات دائماً يكون لها جمالاً خاصاً، بدايات العلاقات، بدايات العمل، بدايات الزواج، بدايات المخدرات، جميع البدايات يكون لها مذاقاً خاصاً يعرفه من جربه، هنا نسأل سؤال جوهري، هل بدايات المخدرات تكون جميلة؟ نعم ، للأسف فإن شعور متعاطي المخدرات في البداية يطلق عليه في الأوساط العلاجية اسم ” مرحلة الحفلة ” فهو يجرب مذاقاً جديداً مفعماً بالسعادة و النشوة، ولذلك هو يستمر ويستمر متصوراً بأن الدنيا عبارة عن حفلة لابد من الاستمتاع بها، ويظل مصراً على أن يظل في هذا الجو الرائع، وهو بطبيعة الحال لا يرى سوى سعادته التي تخبره أن كل شيء سيكون على ما يرام!!
هنا أيضاً نجد سؤال يطرح نفسه بقوة، لماذا البعض يستطيع أن يجرب مرة أو مرتين، ولكنه لا يستمر في مسار الإدمان ويعتلي الهضبة القاتلة بينما هناك من يصر على الاستمرارية مهما كلفه الأمر؟! وهنا يجب علينا أن نفرق بين نوعين من المتعاطين، المدمن النشط، و ما يطلق عليه في الأوساط العلاجية باليوزر.
الفرق بين المدمن النشط و اليوزر ” المتعاطى”:
المدمن النشط :
يعتبر هذا النوع هو مسار علاج الإدمان الأساسي، فهو الشخص الذي لديه ميول إدمانية دائمة لكل ما يشعره بالسعادة، باختلاف الأشياء التي تشعر الشخص بالسعادة ولو سعادة مؤقتة كالمخدرات و إدمان الجنس أو التسوق أو السمارت فون أو ألعاب الفيديو …إلخ، هذا الشخص لديه إصرار دائم على تكرار نفس الأشياء وتوقع سعادة مستمرة، و إن لم يشعر بالسعادة كما شعر بها في أول مرة فإنه يرفع مستوى الجرعة ويزيد منها، ويظل يفعل ذلك حتى يصل لمرحلة أنه يمارس إدمانه لمجرد الاستمرار، ولكن إحساس السعادة لم يعد كما كان في البداية، وهو ما يطلق عليه في الأوساط العلاجية بحالة ” التدهور” ثم نجد نهايات هذا النوع دائماً، إما الموت أو غياهب السجون، ومن يمن الله عليه بالعافية فإنه يسخر له من يساعده للخروج من مسار الإدمان النشط حتى يرى اشراق مستقبله و الأمل لحياة أفضل.
المتعاطي اليوزر :
في الغالب لا يكون هذا النوع من الأشخاص الذين يعانون من مشكلة الإدمان، فقد وهبه الله قدرة على التحكم في النفس، وعدم الانصياع لغرائزه مهما كانت الملذات، فهو يعرف كيف يستخدم الملذات، كل في حينه، وفي الغالب لا يعاني هذا النوع من مخاطر مسار الإدمان، ولكنه قد يعاني من طريقة الاستخدام إذا تعاطى كميات كبيرة من المخدر، وحينها يتم التعامل مع الحالة الصحية من مساعدة في إخراج السموم منه، ولكنه لا يكون مثل المدمن النشط يحتاج لبرنامج علاجي مكثف.
قرار الإقلاع وتوقف مسار الإدمان :
إن حياة المدمن عبارة عن عدة مآسي تكاد تكون مآسي روتينية، فهو كل يوم يعاني من أجل الحصول على الجرعة، كيف يحصل على المال اللازم لها، سواء بطريق شرعي أو طريق غير شرعي، وهنا نجد مأساة تحصيل المال، فقد يحصل عليه بالنصب والاحتيال، أو بالسرقة، أو بالإكراه، فما يعانيه من أعراض الانسحاب يجعله قادر على فعل أي شيء لكي يتحصل على المال الكافي لتحصيل ثمن جرعته، وهذا لايعني أنه مجرم، بل هو تحت ضغط نفسي وجسدي جراء الأعراض الانسحابية، وهو يريد أن يشعر بالراحة، ولذلك لا نستطيع إطلاقاً أن نقول بأن المدمن مجرم، بل هو مريض يدفعه مرضه لسلوكيات سيئة لا يستطيع التفكير في نتائجها بسبب حالته.
إن مسار المدمن بهذا الشكل يجعله يعتلي الهضبة المميتة و التي قد تكون نهايته بالسقوط من سفحها، فيسقط محطماً لا يستطيع النهوض، وهنا يأتي دور المحيطين به، فيكون أمامهم أحد خيارين، إما أن يقنعوه بقرار الإقلاع حتى يغير حياته، أو يلجأون لقرار وضعه داخل مركز لعلاج الإدمان، حتى ولو لم يقرر هو، حتى يرى الأمل بعد أن يتم علاج أعراض الانسحاب، وتنتهي حالة الإجبار الجسدية على تعاطي المخدر، ومن هنا يبدأ اشراق المدمن المتعافي.
العلاج ومراحله المتعددة:
علاج الإدمان بحر واسع، و اشراق غير متوقع للمدمن، في المستشفى يستطيع المعالج بناء العديد من السفن، لكل متعالج السفينة المناسبة له، ولكن قبل الإبحار في التعافي هناك مراحل لابد أن يمر بها جميع المتعافين، وهي المراحل العلاجية التي تؤهله للإبحار نحو مسار التعافي.
المرحلة الأولى:
هذه المرحلة هي المفتاح نحو اشراق التعافي، وهي ما يطلق عليها في المستشفى ” مرحلة إخراج السموم ” وتستمر هذه المرحلة على حسب نوع المخدر الذي كان يتم تعاطيه، فهناك مخدرات تستغرق أعراض انسحابها عشرة أيام، مثل ” الترامادول، الأفيون، المورفين، الهيروين، الكوكايين ” وهناك مخدرات قد تستغرق أكثر من ذلك على حسب كمية الجرعة التي تم التوقف عندها، مثل ” كريستا، الكريستال ميث، الكبتاجون، الاستروكس، مخدر الفيل الأزرق ” وهذا التباين في عدد أيام إخراج السموم بسبب نوعية المخدر ومدى تأثيره على المتعاطي.
وفي هذه المرحلة يوضع المدمن تحت الرعاية الكاملة، فيتم رصد علاماته الحيوية، و إعطائه أدوية تساعده على تحمل أعراض انسحاب المخدرات، كما أنه يتم في هذه المرحلة تشخيص الحالة بصورة كاملة، ورصد الاضطرابات النفسية والجسدية، ووضع الخطة العلاجية التي تناسب المدمن، فكل مدمن تختلف حالته عن الآخر وإن تشابهوا في عموم الإدمان، ولكن ما يناسب شخص قد لا يناسب الآخر.
المرحلة الثانية:
إذا أردنا أن نصنف المراحل من حيث أهميتها، فسوف نصنف هذه المرحلة بأنها أهم المراحل على الإطلاق، ففيها يتم صنع السلاح الذي سوف يستخدمه المدمن في مواجهة إدمانه وكل ما يطرأ عليه من أفكار سلبية و سلوكيات إدمانية مرفوضة.
هذه المرحلة هي المرحلة التي يتم فيها التعمق داخل أفكار المدمن ومعرفة طريقة تفكيره، أو بصيغة أخرى، هي المرحلة التي يتم فيها إخراج ما في رأس المدمن ونثرها على الطاولة، ومن ثم إعادتها مرة أخرى، ولكن بترتيب يسمح بتعديل السلوكيات ومواجهة الأفكار السلبية التي تتوارد على ذهن المدمن والتي قد تكون سبب في انتكاسته مرة أخرى، وهذا يتم بعدة برامج علاجية تتعامل مع أفكار المدمن وسلوكياته، مثل برنامج الماتريكس الجامع الشامل لعدة برامج علاجية ناجحة، وبرنامج المدمنين المجهولين، وبرنامج العلاج المعرفي السلوكي، وكل هذه البرامج يستخدم منها ما يناسب كل مدمن، فكما ذكرنا سابقاً أن ما يناسب مسار مدمن قد لا يناسب مسار مدمن آخر، لذلك فإننا نعتبر هذه المرحلة مرحلة التدريب والتسليح للمدمن، حتى يستطيع خوض غمار الحياة ولا تؤثر فيه الضغوط و لا المثيرات التي سيتعرض لها في مستقبله.
المرحلة الثالثة:
إن اشراق المتعافي يبدأ في هذه المرحلة، فهي المرحلة التي يبدأ فيها المتعافي في المستشفى ركوب سفينة التعافي التي تم إعدادها له مسبقاً، حيث يبدأ خوض غمار الحياة، متسلحاً بالقيم السلوكية التي تم إعطاؤها له في المرحلة الثانية من التعافي، فيبدأ في رسم مسار حياته مستعيناً بمن هم عانوا كما كان يعاني، أو بالاستعانة بخبراء في الإبحار في عباب الحياة، و تعتبر هذه المرحلة بداية اشراق المتعافي نحو الأمل و الحياة، فهي تجعله يتحرك نحو الحياة في مسار خالي من السلوكيات الإدمانية، ولديه من الأسلحة ما يكفي لمحاربة أعتى الأفكار السلبية و التي من الممكن أن تجعله يعود مرة أخرى للإدمان النشط.
مسار متوقع بسبب الضغوط:
ينظر المجتمع للأسف للمدمن المتعافي على أنه عاهة، أو جرثومة لابد من الحذر منها والابتعاد عنها، وهذا من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له مدمن متعافي من إحساس، أن يرى أنه مرفوض، لابد أن يبتعد عن الجميع، لابد من الحذر منه، فهو مصدر عار وفضيحة وتاريخ لا ينسى من الفضائح !!!
إن إحساس المدمن المتعافي بمثل هذه المشاعر إن لم يكن لديه سلاح قوي يدافع به عن نفسه ضد هذه الأفكار السلبية التي يصدرها له المجتمع، ويكون لديه الوعي لتقبل مثل هذه الأحاسيس، فإنه سيكون عرضة للانتكاسة، و لسان حاله ” مادمتم مصرين على أنني لم أتغير، فلن أتغير ” ولقد رأينا العديد من الحالات التي انتكست بسبب مثل بعض هذه الممارسات ضده.
تأثير المشاعر والأحاسيس على مسار التعافي:
هل تعلم بأن المدمن شخص غاية في الرقة و الإحساس ؟؟
نعم .. هو كذلك .. لا تتعجب، فـ المدمن من أبرز أسباب استمراره في الإدمان مشاعره و أحاسيسه التي لا يتحمل وطأتها و لا يستطيع شرح مدى تأثره لأحد، لعلمه المسبق بأن أحداً لن يفهم مدى تألمه، فغيره قد يرى بأن ما يراه المدمن مؤذي نفسياً بصورة كبيرة، شيئاً عادياً لا يكاد يلفت نظره، وربما دفعه ذلك للتهكم على المدمن بأنه لا يستطيع التحمل!!
إن المشاعر و الأحاسيس التي يشعر بها المدمن تكون مضاعفة أكثر من الشخص العادي، ولذلك تأثيرها يكون مضاعفاً و نتائجها أيضاً تكون مضاعفة، لا تستغرب، فإنك سوف تظل غير مصدق بأن مثل هذه المشاعر و الأحاسيس لا تصل لمرحلة أن تكون سبب لتعاطي السموم المخدرة، حتى تستيقظ على كارثة!!
قد يتحمل المدمن كل شيء و أي شيء، إلا شعوراً مؤلماً، فهو يجعل الأفكار السلبية تظل تتوارد على تفكيره، فهو حين كان في الإدمان النشط، كان يطفي إحساسه المؤلم و شعوره المزعج باللجوء للمخدر لـ يسكن ألمه، ولكنه بعد التعافي لا يستطيع اللجوء للمخدر، فهو يعلم معنى أن يعود للتعاطي مرة أخرى، ولذلك فهو يستخدم أدواته و أسلحته التي تسلح بها في مسار التعافي، ولكن زيادة الضغط لا تعرف ما الذي يمكن أن تفرزه من نتائج.
لذلك فنحن نحذر دائماً و أبداً من الضغوط التي تمارس على المتعافي من المحيطين به، فهي بمثابة سهم قاتل نطلقه عليه دون أن نعرف نتائج ذلك.
قدرات التعافي بعد اشراق الأمل:
إذا أطلقنا على المدمن المتعافي لقب ” المحارب البطل ” فإننا لن نكون مخطئين، بل إننا لن نكون وصفناه كما ينبغي !!
نعم .. إن المتعافي محارب استطاع أن يقاوم و يقاوم حتى قام وهو مثخن بالجراح و انطلق نحو هدف ثابت لا يتزحزح عنه، وهو الانتصار على نفسه و مرضه، وهو يقاوم طوال الوقت، بينما تظنه هادئ، ولكنه في معركة لا تعرف عنها شيء، فهو يواجه الأفكار السلبية طوال الوقت، يحارب كل المثيرات التي يتعرض لها، يحارب المشاعر السيئة المختلفة التي يراها طوال الوقت، هو منهك القوى طوال الوقت، ولكنه شامخ ثابت لا ينحني، يستخدم أسلحته طوال الوقت، يعرف أنه لو غفل عن نفسه لحظة فإنه سوف يسقط صريع الانتكاسة، هو شخص لديه خبرة غير عادية في مواجهة الصراعات المختلفة، فحياته قبل التعافي أتاحت له فرصة رؤية القاع كما لم يراه أحد، ثم بعد التعافي استطاع أن يصعد درجة درجة بمعاناة و ألم لم يشعر بها غيره، فعرف كيف تكون المعاناة و كيف هو طعم الألم، ولكنه استطاع أن يصعد بعد أن اكتسب خبرة واقعية من القاع حتى القمة، وهنا يمكنك أن تتخيل مدى القدرات التي يتمتع بها مثل هذا الشخص.
إن القوة هنا تكمن في القدرة على مواصلة التعافي واستخدام الخبرات السابقة في التعامل الصحيح مع معطيات الحياة، فنجد محارب شجاع استفاد من هزائمه التي عاشها وحولها لحالة من تراكم خبرات مكنته من مواجهة محن الحياة و تحويلها لحالة إيجابية يتعامل معها بالطريقة المناسبة.
التعافي مسار النجاح:
إن الإدمان مرض مثل أي مرض مزمن خطير، فهو يجعل من المدمن شخص ضعيف لا يكاد يستطيع الحركة، فهو في حالة من التوقف الزمني لا يدركه و لا يفهمه، ولذلك فهو يستمر في إدمانه ظناً منه أنه بذلك يتحرك، ولكنه للأسف يتحرك في نفس مكانه حركة تنهكه لدرجة الموت.
ولكن التعافي أمر آخر، فهو حركة ليست كأي حركة، بل هي قفزات مستمرة، بما لدى المتعافي من خبرات متراكمة، فـ خطوته تكون خطوات مزدوجة، ولذلك فإننا رأينا العديد من المتعافين يضربون أروع الأمثلة في النجاح، وكأنهم لم يكونوا يوماً في القاع!!
الخلاصة:
يتحدث المقال عن مسار التعافي بعيداً عن الهضبة القاتلة للإدمان، فهو يتحدث عن بدايات الإدمان و الفرق بين متعاطي المخدرات و المدمنى العقاقير، و قرار الإقلاع و السير نحو مسار التعافي، و الانتكاسة بسبب الضغوط، و قدرات المتعافي بعد اشراق الأمل، كما أن اطباء و متخصصى مستشفي الأمل للطب النفسي وعلاج الادمان متواجدون على مدار الساعة للإجابة عن تساؤلاتكم و استفساراتكم.